سلمى حمد المري

سلمى حمد المري

إنسانة من شغف لا تعرف الكلل ولا الملل، لا تغيب ابتسامتها عن وجهها رغم كل شيء وكأنها تساوم بها الزمن مهما كانت رداءته. حين التقيت بها علمت أنها من خامة مختلفة، شعرت أنّ في صداقتها وطن مفتقد وفي نظراتها حيرة حانية لا تخفى على أحد. شاء الله تعالى أن تعيش سلمى .

تجربة من أصعب التجارب ألا وهي فقدان حبيبها ورفيق دربها علي بن شكر، رغم هذا لا تصدّق أنّه رحل لأنّ من يلتقيها سيشعر أنه معها، في عينيها ورجفة قلبها حين تتكلم عنه، شاء الله سبحانه لعلي أن يكون عمره قصيراً ولكنّه ما زال ينبض في حروف سلمى وألوانها التي تكاد تنطق باسمه مع كل خلجة كأنه وهجاً لن يغيب أبدا.

ولدت سلمى في زمان امتلأ بعبق الماضي وسطوع شمس الاتحاد، امتلأت حواسها بتفاصيل تشهد على هذا وذاك، فحلّقت في فضاء رحب تجمع ذكرياتها وتسجّلها على أقمشة الرسم وتنشرها لتشكّل حاضرها ومستقبلها الذي يُتوقَّع له أن يكون حافلا بعطاءات لا تنضب.

رحلة في غياهب الروح.

بدأت رحلة سلمى المري مع اللّون في المدرسة الابتدائية حيث رسمت على الجدران بين الفصول، كما شاركت بمسابقات كثيرة محلية منها وعالمية مثل مسابقة "شنكر" في الهند، وكان هذا بمساعدة مدرساتها اللاتي حرصنَ على مشاركتها وتقديم الموهوبات في الصفّ بأبهى صورة في زمان مضى.

بحكمة العارف، أرسل -حمد المري- إبنته سلمى إلى القاهرة لدراسة الرسم لأنّه لم يشأ أن يُخمد نار موهبتها المتّقدة منذ الصّغر، ولم يكن هناك من خيار إلا السّفر لأن جامعة الإمارات حينذاك لم تكن تحوي اختصاص الرسم. فأصرّ أن يهبها للابداع ويرسم لها مستقبلاً كان من الممكن ألّا يكون على هذا الشكل لولا حنكته وحكمته. في القاهرة، كانت الأيام ممتلئة تزخر بالعديد من الأنشطة ما بين كلّية الفنون وبين مصر القديمة والحسين. هذا الغنى والزّخم أثرى ذاكرتها البصريّة كما تؤكّد بنفسها.

عادت سلمى إلى الإمارات وبدأت بتدريس الفنون لمدّة تجاوزت العشرين عاماً قبل أن تنتقل للتوجيه الفنّي في مدارس دبي، وبعدها أصبحت موجّه أوّل على مستوى مدارس الدّولة. "كنت الوحيدة التي أدخل إلى مدارس البنات ومدراس البنين حينذاك" تقول مبتسمة.

بعد مضي كلّ هذا العمر في التعليم والتوجيه، سألت سلمى نفسها بحرقة "أين أنا من هذا كلّه؟ أين أنا كفنانة؟" وهنا بدأت رحلة البحث عن الذات. قرّرت ألتّفرّغ لإبداعها فاستقالت من التدريس لتكون لها بصمة مضيئة في عالم قلّت به البصمات. لا تنكر سلمى المري كم أعطاها التدريس على الصعيدين الشّخصي والعملي؛ اختيرت كعضو لجنة تحكيم لعدة جوائز، كما شاركت في وضع الوثيقة المنهجية لمادة التربية الفنية، ولا تنسى رسالتها التي أدّتها بكل أمانة في دفع الطلّاب وحثّهم على البحث والاكتشاف وهذا شكّل لديها بالمقابل الرغبة بالبحث هي أيضا بشكل دائم ممّا أوصلها للتكنيك الذي صار يميّزها ويميّز منجزها الفني.

قي زيارة إلى بيتها المليء بالحنين والعبق السرمدي، تقابلك لوحات رائعة فيها من الحزن ما فيها ومن الشغف والحب والحنين. يقابلك النرجس الذي يضجّ حزنا.

هنا زنوبيا التي عملت عليها وكلّلتها بالزّخارف الخشبية والمصوغات التي ترمز إلى الإمارات حيث يُقال أنها عاشت فترة من حياتها في جبال رأس الخيمة، فأحبّت تكريمها أن خلّدت ذكراها ببعض أعمالها.

هناك تطالعك اللوحة التي تضجّ أمومة وحنانا، النّخلة الأمّ التي تحتوي الجميع بمحبتها وعطائها الذي لا ينضب. لم تتميّز سلمى بمواضيع لوحاتها فقط بل تميّزت أيضا بأسلوبها اللوني الذي بدأ بشكل مثير للدهشة. كانت سلمى تسكب الألوان على الباليت رغبة منها في الرسم ولكنها وبحكم مسؤولياتها كأم وزوجة وموظفة لا تستطيع أن ترسم بشكل دائم، كانت ألوانها تجفّ بشكل قصري وتموت لتأتي سلمى إليها بعد أيام وكأنها تريد التماس العذر منها، فتحملها وتعيد إحياءها بوضعها على لوحاتها بما يناسب مواضيعها لتبثّ فيها الحياة من جديد. بعد ذلك، استطاعت المري بحنكتها واحساسها العالي باللون ورحلة طويلة في البحث أن تكوّن قوالبها الخاصة ليتكون بذلك أسلوبها المتميز.

الوالدان

عن والديها تتحدث سلمى بأسى ما بعده أسى، خاصة أنهما دخلا مرض النسيان سويّاً وكأنهما على موعد ألا يتركان بعضهما بعضاً أبدا. صارت الحكايات تندثر وتتوارى بين سطور الأيام، وصارت تسرق من العمر بعض لمحات لتدونها في كتابها "ثبات" للتاريخ والحبّ. حاولت تأريخ الذاكرة من خلال لوحة أهدتها لوالدتها وهي تودّعهم عند كل غياب. التأريخ مهم جدّاً لسلمى وهذا ما حاولت القيام به في ثبات.. "كلنا راحلون ولكن يجب ترك أثر ما في مكان ما" على حدّ تعبيرها. عن ثبات تقوله الفنانة سلمى أنها سعيدة بشكل خاص بالإضافة التي تقدّمت الكتاب ألا وهي كلمة معالي محمد المرّ المشهود له بسعة معرفته وثقافته وهو لا يجامل أبداً ممّا جعل كلمته تعني لها الكثير وتعتبرها إضافة أثرت وأغنت الكتاب.

الطبيعة والبيئة في حياة المري.

بفرح كبير تتحدث سلمى المري عن ارتباطها الوثيق بالبيئة خاصة الغافة التي ارتبطت بها منذ الطفولة، تلك الشجرة التي أوصى بها الشيخ زايد رحمه الله وخالف كل من يقتلعها أو يصيبها بأذى. تمتلىء حديقة منزل المري بالغاف حيث حرص علي بن شكر على زراعته قبل بناء البيت ليصبح وارفاً ومورقاً حين يسكنونه، لكأنه كان يعلم أن حبيبته ستلجأ إليه- مع كتاب لا يفارقها- للشكوى والحنين. لقد حمل علي بن شكرغرسات شجرة الغاف في حقيبته الدبلوماسية لزراعتها في بلد آخر لشعوره بالمسؤولية تجاهها وتجاه حبّ حبيبته لها.

ولا تنسى سلمى جدتها وهي تقف تحت الغافة تحادثها وتضيفها على حياتهم بشكل جميل وعفوي حتى على المائدة.

علي بن شكر

"ما زال علي هنا"، وأنا أعلم أنهّا جادّة وصادقة فيما تقول، ذاك الشاب الذي رافق أحلامها وطموحاتها الكبيرة، ذاك الحبيب المزروع في كل خليّة من جسدها وكلّ خلجة من روحها..ذاك الحبّ الموشوم على ألوانها وابداعها وأقمشة لوحاتها. تغصّ سلمى وهي تتحدث عن رتابة الوقت الذي مرّ مُرّا دونه. ذاك العلقم الذي شربته باكراً لم يكن يوماً بالحسبان، لا تغيب دمعتها عن محياها كلّما هلّ علي مضيئا أو تنفست حبّها له مع كل تنهيدة شوق وحنين.

غاب علي بمشية الله تعالى حيث لا يملك الانسان تجاه الموت إلا القبول بقضاء الله وقدره، رحل عن الدنيا مبكراً إلّا أنّه ما زال معها، ترسم بحضوره وكأنّه أقوى الحضور.هو رجل الاستثناء في حياتها كما تقول. تلك الغصّة التي نقلتها لي وأنا أسمعها تتكلم عنه.

علي بن شكر الّذي أحبّته وهي على مقاعد الدراسة، أصرّا على الارتباط وعلى تخطّي كل شيء معاً، فدعمها بشكل كبير وعميق في مسيرتها وفي كل شيء أحبّت تحقيقه، لم يتغيّر معها على الاطلاق، حتى حين صار أباً وزوجاً ظلّ وكأنه شاب صغير بأوج شغفه تجاهها وتجاه كل ما حلمت بإنجازه.. كان قويّاً حنوناً مقدّراً لكلّ ما تفعله..وهنا تغلبها الدموع لتقول له أن ارتباطها به هو أهمّ ما حصل لها في حياتها وأنها تحبّه.

لأنه معها ولا تريد أن تخذله، شاركت سلمى من البيت في ملتقى دبي التشكيلي الأول وهو أوّل نشاط لها بعد رحيله، شاركت من أجله وهي أكيدة أنّها تسعده بهذا، ولقد كان معها في المرسم كما تقول، حيث ظهر النرجس الذي كان علي يملأ البيت به. لقد رحل علي وقت تفتّحه، فظهرهذا في منجزها الفني وكل أعمالها التي تلت.

سنيار غاليري وثبات

عام 2015، بدأت سلمى المري بتحقيق حلم راودها وعلي منذ أيام الجامعة بامتلاك صالة عرض مميزة، فكان "سنيار" الذي أسّسته مع زميلها الفنان سهيل بدور.

لقد شهد سنيار ليلة افتتاحه حضوراً قويّاً وكأن الكلّ كان يقف بجانبها ليقول أنّه معها وكلّ هذا بمباركة كريمة من معالي الشيخ نهيان بن مبارك آل نهيان. كما شهد كلّ من حضر توقيع كتابها ثبات، الذي جاء مليئا بالقصص واللوحات والذكريات التي أرادت سلمى توثيقها كي لا تغيب وتندثر.

لقد ضمّ معرض سلمى في سنيار غاليري تسعة وثلاثون عملاً تراوحت أحجامها بين وسط، كبير وكبير جدّاً. ولقد أرادت أن توثّق تاريخ المنطقة بشكل عام والإمارات بشكل خاص، حاولت استحضار تلك الآثار التي وجدت في الأرض قبل قيام الاتحاد بكثير. لقد عملت أيضا على تنفيذ لوحات دائرية لتحكي لنا قصص العملات القديمة التي استُخدمت في العصر الحجري والنقود التي تمّ تداولها قبل صدور العملة الحالية.

كلّ ما قدّمته سلمى في هذا المعرض كان جديراً بالتقدير والجهد المبذول في تنفيذ هذه الأعمال واضح وجليّ ولا يخفى على أحد.

كان معرض المرّي من أهم المعارض التي شهدتها الإمارات مؤخراً وكأنها تريد أن تؤكّد أنّ من في قلبه حبّ يشبه حبّها لعلي بن شكر لا يموت أبداً. سيبقى علي حيّا من خلال عطائها واستمرارها وتميّزها كما أرادها علي دائما أن تكون.


الصداقة والأبناء

"أولادكم ليسوا لكم، أولادكم أبناء الحياة" هو قول جبران خليل جبران الذي يؤمن به علي وسلمى ولقد ربّيا أولادهما الثلاثة يارا، أثير وعمر من خلال هذه الفلسفة.

"أمّي نعم الصديقة والرفيقة التي لم تتركنا حتى في عزّ محنتها" تقول أثير بن شكر الإعلامية الواعدة كما تسمّيها سلمى، وتضيف أنها تتمنى حين تصبح أمّا أن تكون مثلها. أمّا عمر فلقد تحدّث عن تعبها وسهرها ومعاناتها التي رافقتها وهي تؤسس غاليري سنيار الذي ترافَقَ بمجهودها المشهود له في تنفيذ أعمال معرضها الأوّل فيه. "لقد عانت أمي الكثير لتحقيق هذا الحلم، عاطفياً وجسدياً ورغم هذا لم يمرّ يوم إلّا وكانت تهتم بأصغر تفاصيلنا وقصصنا" هذا ما يقوله عمر بن شكر عن الوالدة المتميزة حتى النخاع سلمى المري.

لقد كان لرحيل علي أبلغ الأثر على حياة سلمى حيث كان همّها الأول أولادها وكيفية تعاملها معهم بعد فقدهم لوالدهم بعمر مبكر، ولكنّهم فاجأوها بوقوفهم بجانبها ممّا رفعها معنوياً وأعطاها حافزاً للمتابعة والاستمرار، وتأكدّت مذ ذاك الوقت أنّهما- هي وعلي بن شكر أسّسا لعائلة قوية متماسكة للأبد رغم كل الظروف.

الصداقة في حياة سلمى ثراء ما بعده ثراء وهي صداقات للعمر كلّه كما تؤكد.

وفي حديثها عنها تقول أم الإعلام حصة العسيلي "من يعرف سلمى يدرك أنه أمام حالة خاصة جدا من الشغف والموهبة والعطاء اللامحدود. حالة عطاء وبوح وجداني وهي فنانة أصيلة تعشق وطنها وتعود إلى عشقها لترابه وأعواد الياسمين التي ربطت والديها كلّما رسمت". كما تتحدّث الإعلامية الأولى العسيلي عن أهمية وجود رفيق الدّرب كما تسمّيه علي بن شكر، "نحنا بدأنا الطريق وها سلمى تكمله".

صداقتي مع سلمى

التقيت بسلمى منذ أحد عشر عاما، لمست في صوتها رغم جدّيته وطناً حنوناً تتكىء عليه في ملمّاتك. شعرت بدفء وعمق صداقتنا منذ الأيام الأولى، تلك الصداقة التي لن تموت ولن تذوي رغم الغيابات القسرية التي نغيبها أحيانا عن بعضنا البعض. أفتخر بصداقة سلمى المري وعلاقتي الطيبة معها ومع أفراد أسرتها. يستحيل أن أنسى وقوفها بجانبي حين دخلت غرفة العمليات لولادة ابنتي الصغيرة حلا، كان وجهها آخر وجه رايته وأوّل وجه فتحت عيني عليه. سلمى المري غير أنها فنانة رائعة ولكنها أيضا انسانة لا تتكرر إلا فيما ندر. أختم هذا المقال عن الفنانة الاماراتية سلمى المري بقولها الجميل:

"لولا الإلهام الموشّى بالصبر لنضب الفكروالإبداع، فاطلق لنفسك العنان لتبلغ الحقيقة"- سلمى المري

ماجدة نصرالدي

Share:

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *